تحقيق وطني في سوق السردين الصناعي: مجلس المنافسة يفكك عقدين من الاحتكار
في خطوة غير مسبوقة، أعلن مجلس المنافسة المغربي عن فتح تحقيق رسمي في شبهات ممارسات منافية لقوانين المنافسة داخل سوق توريد السردين الصناعي، وذلك بعد رصد مؤشرات قوية على وجود اتفاقات غير مشروعة بين عدد من الفاعلين الرئيسيين في هذا القطاع الحيوي. ويأتي هذا التحقيق ليسلط الضوء على نظام احتكاري استمر لما يقارب 20 سنة، مما يثير تساؤلات عميقة حول مدى شفافية السوق ومدى فعالية آليات الرقابة الاقتصادية.
1. خلفية التحقيق: إشارة الإنذار من داخل السوق
انطلقت التحقيقات على خلفية شكاوى ومعطيات أولية جمعتها مصالح مجلس المنافسة، كشفت عن وجود تفاهمات سرية تهدف إلى التحكم في سوق السردين الصناعي من خلال التنسيق المسبق حول الأسعار، والإنتاج، والتوزيع. وقد صرح المجلس بأن هذه الممارسات تتعارض كليًا مع مبدأ المنافسة الحرة وتضر بالمستهلكين والفاعلين الجدد الراغبين في ولوج السوق.
2. طبيعة الممارسات: تواطؤ وتقييد ممنهج للمنافسة
كشفت نتائج التحقيق الأولي عن ممارسات ممنهجة تمثلت في:
- تحديد أسعار البيع الأول للسردين الصناعي بشكل توافق جماعي بين الفاعلين، بدلًا من ترك السوق لتحديد السعر حسب العرض والطلب، وهو ما أدى إلى رفع أو خفض الأسعار بشكل مفتعل.
- توزيع الإنتاج بشكل منسق ومقيّد بين الأطراف المتورطة، ما أدى إلى إقصاء فاعلين محتملين من دخول السوق، وخلق بيئة احتكارية مغلقة تقوض مبدأ التنافسية.
هذا النمط من التواطؤ لا يخلق فقط اختلالات في توازن السوق، بل يمس بشكل مباشر بقدرة القطاعات الصناعية الأخرى المرتبطة بالسردين على التطور والتوسع، كما يلحق أضرارًا بالنمو الاقتصادي العام.
3. الأطراف المتورطة: شبكة واسعة من المصالح المشتركة
وجه المقرر العام لمجلس المنافسة تبليغات رسمية تتضمن مؤاخذات إلى 15 هيئة مهنية يشتبه في تورطها في هذه الممارسات، وتشمل:
- المجهزين البحريين، المسؤولين عن تزويد السوق بكميات السردين.
- الوحدات الصناعية لتحويل وتثمين السمك الصناعي، التي تعتمد على استقرار الأسعار لتحديد استراتيجياتها الإنتاجية.
- تجار السمك بالجملة، الذين يشكلون حلقة الوصل الأساسية بين الصيد الأولي والتوزيع المحلي والدولي.
ويطرح هذا التنوع في الأطراف المتورطة صورة عن شبكة من المصالح المتقاطعة التي كانت تشتغل بمنأى عن أعين الرقابة، ما يضع أمام السلطات تحديات كبيرة في تفكيك هذا النظام شبه الاحتكاري.
4. الأبعاد الاقتصادية والقانونية للتحقيق
يُنتظر أن تفتح هذه القضية الباب أمام نقاش وطني واسع حول فعالية قوانين المنافسة، ومدى قدرة المؤسسات المعنية على فرض قواعد الشفافية. كما يُرتقب أن تسفر التحقيقات عن:
- غرامات مالية ثقيلة قد تطال الهيئات المتورطة.
- إعادة هيكلة سوق السردين الصناعي لتمكين فاعلين جدد وضمان توازن العرض والطلب.
- إجراءات تنظيمية جديدة لضمان عدم تكرار نفس الممارسات في قطاعات أخرى.
5. أهمية السردين الصناعي في الاقتصاد المغربي
تجدر الإشارة إلى أن السردين الصناعي يُعتبر من المنتجات الاستراتيجية في الاقتصاد المغربي، سواء من حيث القيمة التصديرية أو من حيث دوره في تغذية الصناعات التحويلية كالتعليب والزيوت. وبالتالي، فإن أي اختلال في سلاسل التوريد يؤثر مباشرة على الاستقرار الغذائي والقدرة التنافسية للمنتجات المغربية في الأسواق العالمية.
خاتمة: لحظة فاصلة في تاريخ المنافسة بالمغرب
يشكل هذا التحقيق اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية المغرب في ترسيخ ثقافة الشفافية والمنافسة النزيهة. وإذا ما تم تتبعه بقرارات حازمة، فقد يمثل نقطة تحول في ضبط الأسواق وتطهيرها من الممارسات غير القانونية، وبالتالي تعزيز مناخ الثقة في الاقتصاد الوطني.